الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وجملة {والذين قاتلوا في سبيل الله} الخ عطف على جملة {فإذا لَقِيتُمُ الذين كفروا فضرب الرقاب} الآية فإنه لما أمرهم بقتال المشركين أعقب الأمر بوعد الجزاء على فعله.وذكر {الذين قاتلوا في سبيل الله} إظهار في مقام الإضمار إذ كان مقتضى الظاهر أن يقال: فلن يُضل الله أعمالكم. وهكذا بأسلوب الخطاب. فعدل عن مقتضى الظاهر من الإضمار إلى الإظهار ليكون في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي إفادة تقوّي الخبر. وليكون ذريعة إلى الإتيان بالموصول للتنويه بصلته. وللإيماء إلى وجه بناء الخبر على الصلة بأن تلك الصلة هي علة ما ورد بعدها من الخبر.فجملة {فلن يضل أعمالهم} خبر عن الموصول. وقرنت بالفاء لإفادة السببية في ترتب ما بعد الفاء على صلة الموصول لأن الموصول كثيرًا ما يشرب معنى الشرط فيقرن خبره بالفاء. وبذلك تكون صيغة الماضي في فعل {قاتلوا} منصرفة إلى الاستقبال لأن ذلك مقتضى الشرط.وجملة {سيهديهم} وما عطف عليها بيان لجملة {فلن يضل أعمالهم}.وتقدم الكلام آنفًا على معنى إضلال الأعمال وإصلاح البال.ومعنى {عَرَّفها لهم} أنه وصفها لهم في الدنيا فهم يعرفونها بصفاتها. فالجملة حال من الجنة. أو المعنى هداهم إلى طريقها في الآخرة فلا يترددون في أنهم داخلونها. وذلك من تعجيل الفرح بها.وقيل: {عرفها} جعل فيها عرْفًا. أي ريحًا طيبًا. والتطييب من تمام حسن الضيافة.وقرأ الجمهور {قاتلوا} بصيغة المفاعلة. فهو وعد للمجاهدين أحيائهم وأمواتهم.وقرأه أبو عمرو وحفص عن عاصم {قُتِلوا} بالبناء للنائب. فعلى هذه القراءة يكون مضمون الآية جزاء الشهداء فهدايتهم وإصلاح بالهم كائنان في الآخرة. اهـ.
.قال الصابوني. {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق}.سورة محمد:الحرب في الإسلام:.التحليل اللفظي: {أثخنتموهم}: أكثرتم فيهم القتل والجراح. يقال: أثخن العدو: إذا أكثر فيه الجراح. قال في (اللسان): والإثخان في كل شيء قوته وشدته. يقال: قد أثخنه المرض إذا اشتدت قوته عليه ووهنه. وأثخنته الجراحة: أوهنته. وقوله تعالى: {حتى يثخن في الأرض} [الأنفال: 67] معناه حتى يبالغ في قتل أعدائه.{الوثاق}: الوثاق: في الأصل مصدر كالخلاص. وأريد به هنا ما يوثق به أي ما يربط كالحبل وغيره.قال في اللسان: والوثاق اسم الإيثاق. تقول: أوثقته إيثاقا ووثاقا. والحبل أو الشيء الذي يوثق به (وثاق) والجمع الوثق بمنزلة الرباط والربط.وقال الجوهري: وأوثقه في الوثاق: أي شده. ومنه قوله تعالى: {فشدوا الوثاق} والوثاق بكسر الوأولغة فيه. اهـ.والمراد في الآية الكريمة: أسر الأعداء لئلا يفلتوا.{منا}: مصدر من ومعناه: أن يطلق سراح الأسير بدون فداء. وبدون مقابل. قال الشاعر:{فداء}: مصدر فادى: والفداء أن يطلق الأسير مقابل مال يأخذه منه.قال في اللسان: الفداء بالكسر: فكاك الأسير. والعرب تقول: فاديت الأسير وتقول: فديته بمالي. وفديته بأبي وأمي. إذا لم يكن أسيرا. وإذا كان أسيرا مملوكا قلت: فاديته. قال الشاعر: {أوزارها}: الأوزار جمع وزر. وهو في الأصل: الإثم والذنب. ويطلق على الحمل الثقيل. والمراد به الات الحرب وأثقالها من السلاح. والخيل. والعتاد. وسمي السلاح (أوزارا) لأنه يحمل لثقله. قال الأعشى: وإنما جاء الضمير مؤنثا (أوزارها) لأن الحرب مؤنثة.ومعنى الآية: حتى تنتهي الحرب. وتضع سلاحها. فلا يكون قتال مع المشركين لضعف شوكتهم.{ذلك}: اسم الإشارة ذلك جيء به للفصل بين كلامين. وقد كثر في لغة العرب استعمال اسم الإشارة عند الفصل بين كلامين والأنتقال من الكلام الأول للثاني. كأنه قيل: ذلك ما كنا نريد أن نقول في هذا الشأن. ونقول بعده كذا.. وكذا.{لأنتصر منهم}: أي انتصر منهم بدون أن يكلفكم بحرب أوقتال. فالله سبحانه قادر على إهلاك الكفار بدون حرب المسلمين لهم. ولكنه ابتلاء من الله سبحانه: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم} [محمد: 31].قال الألوسي: قوله تعالى: {ولويشاء الله لأنتصر منهم} أي لأنتقم منهم ببعض أسباب الهلاك من خسف. أو رجفة. أوغرق. أو موت جارف.{ليبلوا بعضكم ببعض}: أي أمركم سبحانه بالحرب {ليبلوا بعضكم ببعض} فيثيب المؤمن ويكرمه بالشهادة. ويخزي الكافر بالقتل والعذاب. والابتلاء في اللغة: الامتحان والاختبار.{يضل أعمالهم}: أي فلن يضيع أعمالهم بل ستحفظ وتخلد لهم. ويجزون عليها الجزاء الأوفى يوم الدين.{عرفها لهم}: أي بينها لهم وأعلمهم منازلهم فيها فلا يخطئونها. أو عرفها لهم في الدنيا بذكر أوصافها كما قال تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن} [محمد: 15] الآية. .المعنى الإجمالي: يأمر الله سبحانه المؤمنين عند لقاء الكفار في الحرب. الا تأخذهم شفقة عليهم. بل ينبغي أن يحكموا السلاح في رقابهم. ويحصدونهم بسيوفهم حصدا. حتى إذا غلبوهم. وقهروهم. وكسروا شوكتهم. عند ذلك عليهم أن يشدوا الوثاق وهو كناية عن وقوعهم أسرى في أيدي المؤمنين. فإذا انتهت الحرب فالمؤمنون عند ذلك بالخيار. إما أن يمنوا على الأسرى فيطلقوا سراحهم بدون عوض. وإما أن يأخذوا منهم الفداء ليستعين به المسلمون على مصالحهم. بعد أن تضعف عزائم المشركين وتكسر شوكتهم.ثم بين الله سبحانه الحكمة من مشروعية القتال مع قدرته تعالى أن ينتصر من أعدائه من غير أن تكون حرب بين المؤمنين والكافرين. وتلك الحكمة هي امتحان الناس. واختبار صبرهم على المكاره. واحتمالهم للشدائد في سبيل الله {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} [آل عمران: 142].ثم بين الله تعالى بعد ذلك أن الذين أكرمهم الله بالشهادة في سبيله. ستحفظ أعمالهم.وتخلد لهم. ثم هم بعد ذلك في روضات الجنات يحبرون وفي ذلك حض على الجهاد. وترغيب للخروج في سبيل الله لينال المؤمن إحدى الحسنيين: إما النصر والعزة في الدنيا. وإما الشهادة في سبيل الله..وجوه القراءات: أولا: قوله تعالى: {فشدوا الوثاق} قرأ الجمهور {الوثاق} بفتح الواو. وقرئ {الوثاق} بالكسر وهو اسم لما يوثق به.قال الألوسي: ومجيء (فعال) اسم الة كالحزام والركاب نادر على خلاف القياس. وظاهر كلام بعضهم أن كلا من المفتوح والمكسور اسم بما يوثق به.ثانيا: قوله تعالى: {وإما فداء} قرأ الجمهور بالمد. وقرأ ابن كثير {وإما فدى} بالفتح والقصر كعصا.قال أبو حاتم: لا يجوز قصره لأنه مصدر فاديته.قال الشهاب: ولا عبرة به فقد حكى الفراء فيه أربع لغات الفتح والكسر. مع المد والقصر.ثالثا: قوله تعالى: {والذين قتلوا في سبيل الله} قرأ الأعمش وحفص عن عاصم {قتلوا} بتخفيف التاء مبنيا للمجهول. وقرأ الجمهور {قاتلوا} بألف مبينا للمعلوم.رابعا: قوله تعالى: {فلن يضل أعمالهم} قرأ علي كرم الله وجهه {يضل} مبنيا للمفعول. و{أعمالهم} بالرفع نائب فاعل. وقرئ {يضل} بفتح الياء من ضل وأعمالهم فاعل. وقراءة الجمهور {يضل أعمالهم} أي لن يضل الله أعمالهم بمعنى لن يضيعها.خامسا: قوله تعالى: {عرفها لهم} قرأ الجمهور بتشديد الراء. وقرأ أبو رجاء وابن محيصن {عرفها لهم} بتخفيف الراء..وجوه الإعراب: أولا: قوله تعالى: {فضرب الرقاب} منصوب على المصدرية. أي اضربوا ضرب فهو مفعول مطلق لفعل محذوف. وهو من إضافة المصدر للمفعول. والأصل: اضربوا الرقاب ضربا. فحذف الفعل وقدم المصدر. وأنيب منابه مضافا إلى المفعول. وحذف الفعل في مثله واجب كما نبه عليه علماء النحو.ثانيا: قوله تعالى: {فإما منا بعد وإما فداء} منا وفداء منصوبان على المصدر إما أن تمنوا عليهم منا. أوتفادوهم فداء. فهو كسابقه مفعول مطلق لفعل محذوف. وحذف الفعل الناصب للمصدر واجب كذلك ومنه قول الشاعر:وجوز أبو البقاء كون كل من (منا) و(فداء) مفعولا به لمحذوف تقديره: تولوهم منا. أوتقبلوا منهم فداء. ولكن أبا حيان رد هذا بأنه ليس إعراب نحوي.ثالثا: قوله تعالى: {ذلك ولويشاء الله} ذلك. في موضع رفع لأنه خبر لمبتدأ محذوف وتقديره: الأمر ذلك أو الحكم ذلك.رابعا: قوله تعالى: {ويدخلهم الجنة عرفها لهم} جملة {عرفها لهم} في موضع نصب على الحال. والتقدير ويدخلهم الجنة معرفة لهم. .لطائف التفسير: اللطيفة الأولى: عبر القرآن الكريم عن القتل بقوله تعالى: {فضرب الرقاب} والسر في ذلك أن في هذه العبارة من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ (القتل) لما فيه من تصوير القتل بأشنع صورة. وهو حز العنق وإطارة العضوالذي هو رأس البدن. وأشرب أعضائه. ومجمع حواسه. وبقاء البدن ملقى على هيئة منكرة والعياذ بالله تعالى. ولوقال: (فاقتلوهم) لما كان هذا المعنى الدقيق.والتعبير أيضا: يوحي بشجاعة المؤمنين وأنهم من الكفار كأنهم متمكنون من رقابهم. يعملون فيهم سيوفهم بضرب الأعناق. وهو (مجاز مرسل) علاقته السببية لأن ضرب الرقبة سبب الموت.اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {فشدوا الوثاق} كناية عن الأسر أي اجعلوهم أسرى واحفظوهم رهائن تحت أيديكم. حتى تروا فيهم رأيكم. ولما كانت العادة أن يربط الأسير لئلا يهرب جاء التعبير بقوله: {فشدوا الوثاق} وفيه الإشارة إلى الكف عن القتل والاكتفاء بالأسر. لأن الشريعة الغراء تنهى عن الإجهاز على الجريح. وذلك من اداب الإسلام وتعاليمه الإنسانية الرشيدة.اللطيفة الثالثة: تقوله تعالى: {فإما منا بعد وإما فداء} ذكر تعالى: المن والفداء ولم يذكر القتل والاسترقاق. وفي ذلك إرشاد من الله تعالى إلى أن الغرض من الحرب كسر (شوكة المشركين). لا إراقة الدماء والتشفي بإزهاق الأرواح. فإذا ضعفت شوكة المشركين ووهنت قواهم فلا حاجة إلى القتل. وتقديم (المن) على (الفداء) في الآية الكريمة للإشارة إلى ترجيح حرمة النفس على طلب المال. فالمجاهد في سبيل الله يقاتل لإعلاء كلمة الله. لا للمغنم المادي والكسب الدنيوي.اللطيفة الرابعة: قوله تعالى: {حتى تضع الحرب أوزارها} في الآية الكريمة إشارة إلى أن الإسلام يكره الحرب ويمقتها. لأنها مخربة مدمرة. والتعبير بـ: {أوزارها} للإشارة إلى أن ما فيها من اثام إنما ترجع على الذين أشعلوها وهم الكفار. المحاربون لله ورسوله. فلولا كفرهم وإفسادهم في الأرض لما كانت هناك حرب.قال الإمام الفخر: والمقصود من وضع الحرب أوزارها. انقارض الحرب بالكلية بحيث لا يبقى في الدنيا حزب من أحزاب الكفر. يحارب حزبا من أحزاب الإسلام. وإنما قال: {حتى تضع الحرب أوزارها} ولم يقل: حتى لا يبقى حرب. لأن التفاوت بين العبارتين كالتفاوت بين قولك: انقرضت دو لة بني أمية. وقولك لم يبق من دو لتهم أثر. ولا شك أن الثاني أبلغ. فكذا هاهنا.اللطيفة الخامسة: فإن قيل: لماذا لم يهلك الله الكافرين مع قدرته عليهم وأمر المؤمنين بالجهاد؟فالجواب: أن الله عز وجل أراد بذلك أن يختبرعباده. فابتلى المؤمنين بالكافرين. ليختبر صبرهم على المكاره. واحتمالهم للشدائد. وابتلى الكافرين بالمؤمنين. ليطهر الأرض من رجسهم. وينيل المؤمنين الشهادة في سبيله بسببهم. وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: {ولكن ليبلوا بعضكم ببعض}.فإن قيل: إن الله يعلم المؤمن من الكافر. والبر من الفاجر. والمطيع من العاصي. فما هي فائدة هذا الابتلاء؟ فالجواب أن الابتلاء من الله تعالى ليس بقصد العلم والمعرفة. وإنما هو بقصد إثابة المؤمن. وتعذيب الكافر. بعد إقامة الحجة عليه. حتى يقطع العذر على الإنسان. أونقول: إن الابتلاء غرضه الكشف للناس. أوللملائكة. ليظهر لهم الصادق من المنافق. والتقي من الشقي. وليس بالنسبة له تعالى. لأنه بكل شيء عليم.اللطيفة السادسة: أمر الله تعالى بالمن أو الفداء. وهذا من مكارم الأخلاق التي أرشد إليها الإسلام. روي أن الحجاج حين أسر أصحاب (عبد الرحمن بن الأشعث) وكانوا قريبا من خمسة الاف رجل. قتل منهم ثلاثة الاف فجاءه رجل من (كندة) فقال يا حجاج: لا جزاك الله عن السنة والكرم خيرا! قال: لأن الله تعالى يقول: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء} في حق الذين كفروا فوالله ما مننت. ولا فديت؟ وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق:فقال الحجاج: أف لهذه الجيف!! أما كان فيهم من يحسن مثل هذا الكلام!؟ خلوا سبيل من بقي. فخلي يومئذ عن بقية الأسرى وهم زهاء ألفين. بقول ذلك الرجل. .الأحكام الشرعية: .الحكم الأول: ما المراد بـ: {الذين كفروا} في الآية الكريمة؟ اختلف المفسرون في المراد من قوله تعالى: {الذين كفروا} على قولين:1- القول الأول: أن المراد بهم المشركون الكفار عبدة الأوثان. وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
|